الخميس، 30 أبريل 2015

(2) الديوان
(2) الديوان

-          وبعدين معاك يا رُمَّان!!
زيِّ ما بتناديك العَمَّة "يامنة" ..
-         طب انت مش قلتلي يوم نَـشَـر الجرابيع إشاعة موتك:
(يعني يا مْحمد .. يعني حاموت قبلِ ما اقولَّك؟؟)
-         طب اهو انت راخر رحت يا خال، وما قلتليش ولا عبّرتنيش.

بيتُك في المهندسين شقة في عمارة، مفروشٌ على الطراز القديم. المشربيات والأرابيسك والنجف والكراسي الخشبية والسجاد والتحف النحاسية القديمة والمقاعد وأطقم الجلوس التاريخية. ليست بالفخيمة فاحشة الفخامة ولا بالفقيرة البائسة. فيها من توقك الطبيعي للبساطة مع العراقة ولمسات الأستاذة نهال كمال الجمالية. كأنك كنت تستلهم بيت (السحيمي) وسيرة بني هلال وأنت تفرش هذي الدار. وعلى الحائط صور كثيرة، كبيرة وصغيرة، لك وأمك فاطنة قنديل وأخرى والشيخ محمود الأبنودي وأخرى مع نجيب محفوظ ورابعة لك مع درويش ونهال(1) و(الولاد)، كما كنت تقول وتقصد البنتين الجميلتين الرقيقتين، حيلتك في الدنيا، (آية ونور)(2). وهناك صورتك مع هيكل وأخرى مع عبد الحليم وبليغ. وصورة .. وصورة .. صور على أرفف مكتبتك وأخرى على الجدران والكل في غاية التنظيم والدقة والنظافة.  

-         انت ح تحطِّـلي بروفة الديوان وأول ما هنتغدى ح نروح على الاستوديو نسجل.
-         نسجل إيه؟
-         ح تسجل الديوان بصوتك.
-         دي مفاجأة يخال.. ياريت لو كان عندي تسجيل من الأمسيات الشعرية العملتها في السودان.
-         وانت عايزها ليه؟
-         الجمهور مهم في تجاوبي مع الكلام وإحساسي بيهُ وأنا عايز الإلقاء يخرج وكأن أمامي جمهوري.
-         يا سيدي أنا ح أكون قُصادك في الاستوديو .. أنا جمهورك أَهو.. وبعدين دا هوَّ نفس الأستوديو اللي انا عملت فيه كل دواويني الصوتية .. وهوَّ قريِّب ع الناصية التانية.. وخُـلُـص الكلام .. أنا حجزتلك.

كنتُ بين الفرح الغامر والرهبة. وبرغم الخبرة الطويلة في وقوفي على المنصات وجلوسي أمام المايكروفونات داخل الاستديوهات ومجابهتي الدائمة للجمهور، فقد كانت تلك من أكثر اللحظات عندي تضارباً في المشاعر. لكن في النهاية طغى فرحي بك وبحضورك تسجيل ديواني الصوتي على ما سواه من أحاسيس الرهبة. تعودت في مثل هذه المناسبات أن أتخذ من الكاميرا التي أمامي أو المايكرفون الذي تحت أنفي جمهوراً افتراضياً. ولكن ما أروع أن تأتي إلى أمسية شعرية وتجد جمهورك حشداً من عبد الرحمن الأبنودي.  كنت أرفع رأسي أثناء الإلقاء فأجدك بلحمك وليس بشحمك لأنه لم يعد لديك شحم. لأخاطبك لأنك جمهوري الذي أمامي فأراك من خلف الزجاج، تضع ذقنك على مقبض عصاك، تهزُّ رأسك يمنة ويسرة وأنت تبستم لي ووجهك ممتلئ بالمحبة. هل كانت الكلمات تهزك فتستحسنها؟ هل كنت تشجعني؟ لقد كان حجزك الاستوديو ووجودك أمامي أقرأ لك وحدك هو التشجيع الأكبر. لأكثر من ساعتين وأنت تجلس أمامي خلف الحاجز الزجاجي. نال مني برد الاستوديو والإرهاق ولم ينل منك، بالرغم من وضعك الصحي الذي أعرفه. أخطئ في كلمة أو أتلعثم فتلوح لي من وراء الزجاج أن أمضي ولا أتوقف وأن أصحِّح في الخطوة التالية. كنت أدرك، من خبرة سابقة، أن المكساج يقوم بمسح غير المرغوب فيه، ولم أستغرب أنك أيضاً تعرف ذلك.
-         هتقعد مع (مدحت)(3) ولما تخلصوا مِ المكساج تعالالي في البيت .. عايزك تسلم عَ الولاد قبل ما تروح على عزالدين(4).. هُمَّ ونهال يكونوا رِجعم.. تعرف الطريق للبيت؟ نفس الدرب اللي جينا بيه.  
لم يأخذ المكساج وقتاً طويلاً، وأثناءه سألت (مدحت):
-         ساعة الاستوديو عندكم بكم جنيه مصري. فأجابني.
-         أرجو أن تجهز لي الفاتورة بعد ما نخلص من المكساج.
-         فاتورة إيه يا استاذ؟ دا الخال مخلّص على كل حاجة .. مما جميعو
-         كيف الكلام دا؟؟
-         انت الخير والبركة يا ستاذ محمد.
-         دي مفاجأة تانية من الخال.
وبعد عتاب الأحبة و .. انت تستاهل أكتر
كنتَ فرحاً ومرحاً وسعيداً وكذلك كنت أنا. جلسنا في صالونك تجادعني بالدوبيت وتقولي بصعيدية قحة تضغط فيها على مخارج الحروف في محاولة صادقة لإلقاء الدوبيت كما نفعل نحن السودانيّون:
-         الليلة الصعيد جاب الهبوب مقلوبة
وأقول لك:
-         طرّاني الأهل والجلسة في الراكوبة
وأزيدك بيتاً:
-         مُهرة دنقلا الما دردروك مجلوبة
فترد ووجهك بسَّام:
-         زيطِك شال مَصِر وادّلّى فوق النوبة
ونقهقه معاً احتفالاً بالدوبيت الذي كنت تحبه، وبوجودنا معأ وبإنجازنا لديواني الصوتي.
-         تعرف يا محمد أعتقد أن (زيطِك) ديه مصرية .. إحنا نقول الزيط .. نعني السُمعة.
-         أعتقد أنها عربية من (صيت) وهي السمعة فعلاً .. بس عندنا في الشعر الشعبي السوداني استعمل كتير .. اللفظ دا والمعنى دا. أمسك عندك.. عندنا مناحة شهيرة قيلت في أحد الفرسان اسمه موسى ود جـَـلي وهو في شخوص الشعر الملحمي عندنا يماثل سيف بن ذي يزن وأبو زيد وعنترة.. وبتقول:

حليل موسى يا حليل موسى

حليل موسى للرجال خوسه

ما بياكل الملاح أخـَــدَر

ولا بيشرب الخَـمُر يسكر

عجب عيني يوم ركب دفَّر

طلع (زيطو) شال بنات بربر 

لم تسألني عن معاني هذه المفردات المغرقة في العامية السودانية لأنها هي نفسها عاميتك. ولم أحتج يوماً لأسألك من معاني مفرداتك بل دخلت مباشرة إلى قلوبنا جميعاً لأنها كلامنا. لم أجد عربياً، مصرياً كان أو غيره، يدرك العامية السودانية مثلك ويعرف لهجاتها وطرائق نطقها وسرعاتها ووقفاتها. فقط استوقفتك لفظة (شال) مصر و(شال) بنات بربر .. شوف التعبير يا محمد.. يعنى وصل مصر وبنات بربر واتدلَّى ع النوبة..

وكان بعد حين..

(1)    الأستاذة نهال كمال زوجة الخال
(2)    آية ونور بنتا الخال وليس له غيرهما
(3)    الأستاذ مدحت عبد المجيد، مدير ستوديو Digital Master بالمهندسين

(4)    الباشمهندس عز الدين محمد ابراهيم (سودانيز ساوند)، منتج أنشودة (مصر المؤمَّنة) للشيخ البرعي وغناء شرحبيل أحمد وعلي الحجار وعقد الجلاد وإيهاب توفيق. وكنت والخال قد تبادلنا إلقاءها. تم تصوير الأنشودة بين مصر والخرطوم وأمدرمان والزريبة. لم يتم نشر العمل لنزاع بين المنتجين.

حقوق النشر © القدال