الاثنين، 27 أبريل 2015

     -         وبعدين معاك يا رُمَّان!!
زيِّ ما بتناديك العَمَّة "يامنة" ..
-         طب انت مش قلتلي يوم نَـشَـر الجرابيع إشاعة موتك:
(يعني يا مْحمد .. يعني حاموت قبلِ ما اقولَّك؟؟)
-         طب اهو انت راخر رحت يا خال، وما قلتليش ولا عبّرتنيش.

الذاكرة .. كأنه يوم أمس. والمجلس القومي للآداب والفنون، منتصف سبعينات القرن الماضي، يكتظ بالشعراء والغاوين ليسمعوا الحكيات الحبيبة الحاذقة لحراجي القط والخواجة لامبو، وأنت تصر على المغربي(1) رئيس المجلس، عليه الرحمة، أنك تريد أن تسمع لشعراء السودان لأنها المرة الأولى التي تزور فيها هذا البلد الطيب الشاعر حتى النخاع. يجمع لك رئيس المجلس مجموعة من أساطين شعراء الفصحي في ذاك الأوان، وهم أهل القصيد المتين ذي المنكبين والضلفتين. وأنت شاعر العامية المفلق. كنت حراً تزلتزمها قافية في موالك حين تحب وتتحرر منها إلى الطلاقة حين تشاء لا تأسرك بحسنٍ ولا تقيدك برويٍّ، كنت تتململ كأنك على الجمر تقبض، تجلس  .. تستمع، فتنقبض أصابع يديك على فرش الكرسي الوثير. تتلفَّت يمنة ويسرة: يوم أسود دا اليوم إللي طلبت أسمع فيه.. إيه دا يا عم. قبل أن ينفض السامر كانت قراءتي ل (حليوة) في آخر الأمسية بعد أن أصاب الأمسية التثاؤب. لقد كنتُ وقتها موظفاً صغيراً مستجداً في مجلس الآداب والفنون وشاباً يتلمس طريقه إلى الشعر. بعد الأمسية قلت لي ما قلت .. وذهبنا إلى منزل سيف الجندي في (نمرة اتنين)، أولاد نور الدين، مهدي ونجيب وعلي وعميري عليه الرحمة وسمية وآخرون لا أذكرهم الآن. هل كنت هنالك يا إلياس؟ بالتأكيد كان معنا الأسطى حراجي والواد عيد وأمه فاطنه احمد عبد الغفار وكل الوجوه التي كانت على الشط وبالأمارة عمي ابراهيم أبو العيون.. واحتفينا بهم أيما احتفاء. جلسنا على الأرض نستمتع بك شعراً وطرفة ولماحية. امتلأت الدار بأهل الدار وجيران الدار وأطلت العيون من أبوابها المشرعة والشبابيك. وغنى عميري  (دويتو) مع سمية بت حسن، كان اعجابك بصوتيهما واضح وأنت منتشي ب (يا عيون المها) . ألح الأصدقاء أن أقرأ لك ولهم قصيدة أخرى ونحن (متوهطين الأرض). قرأتُ كأنني أقرأ لك وحدك .. وقلت لي ما قلت لي .. وبعدها لم نفترق.
بعد انتفاضتنا المجيدة هنا في الخرطوم، ذهبنا نحتفل مع شباب العالم في مهرجان الشباب وكانت موسكو في أوج البروسترويكا والجلاستنوست. وجورباتشوف قد مضى في تفاهمه مع الأمريكان شوطاً بعيداً حتى أنه قد قنن زمن بيع الفودكا. نزلنا في الدوم توريستا المطل على اللنينسكي بروسبيكت وقريب منه جامعة الصداقة (باتريس لوممبا). كان الوفد السوداني يساكنكم والإخوة الفلسطينيين بنفس الطابق. في غرفتك جلسنا إلى الشيخ إمام ولم يكن معه رفيق دربه، أحمد فؤاد نجم، الذي لم يحضر. كانا وقتها قد افترقا فراقاً بائناً ومع ذلك غنى الشيخ من أشعاره على عوده .. غنى جيفارا مات وغنيت لنا الخواجة لامبو مات.

كان فيه كمان ناس أغنيا ..

ليهم بيوت ..ليها سقوف طايلة السما..

ممتلية باللي اسبانيا فراغ منو .. ولامبو
لامبو .. كان شاعر مغنِّي
يمشى والجيتار عشيقتو
يلمسو ..
يملا ليل اسبانيا بفصوص الأماني وِالأغاني البرتقاني ...
عمو لامبو قضى عمرو في الحارات والخمارات ..
كان يغني للعيال المقروضين ..
كان يغني للأرامل ..
والغلابا ...
والسكارى ..
السكارى اللي يعودوا من جحيم الحر .. في المنجم
السكارى اللي المحاجر حولتهم زيها..
أزمة وحجارة ..
ومعك تعرفنا على ليلى خالد. هل تذكرون أول خاطفة للطائرات الإسرائيلية؟ حدثتنا عن خطف الطائرات الإسرائلية، وقد كانت الحادثة الأولى من نوعها في العالم وبها التفت العالم انتباهاً إلى القضية الفلسطينية ومنظمة التحرير وياسر أبو عمار. كان حفلنا مشتركاً مع الفلسطينيين وكانت تدير الخشبة فاطمة برناوي هل تذكرون أول أسيرة فلسطينية. كان النشيد من تأليف محجوب وتلحين الجميع. ورقصنا الدبكة الفلسطينية في الشارع وفي المسرح. وبعدها ذهبنا إلى حفل البلشوي. هل تذكر كيف كنت تلتفت إلى محمد الأمين فتجده مستغرقاً في العرض كقديس في صلاة. فتتبسم ثم تنصرف إلى العرض.

-         فينهم يا عم .. محجوب شريف ووردي ومحمد الأمين؟ هُـمَّ ما نزلوش لحد دلوقت؟
-         لأ يا خال همَّ عندهم لعب فْ قهوة تانية .. اجتماع مع الإخوة الفلسطينيين

وجلجلت ضحكتك: 
-   طب ما هو انت كمان تعرف تِنكِّت ..
-         تعرف يا محمد .. كان عازمنا اسماعين .. اسماعين حسن الله يرحمو، شاعر ونص .. وحياة عطعوطة(2).. كان عندو جنينه على سوبا .. ودبح لينا كبش إيه .. زيِّ إيه أقولك .. قدر الجحش. بس وحياتك ماكلتش فيه ولا حبايه.. كَـلُو لوحدو .. قلتلو يا سماعين .. بين الديوم والإمتداد شارع ظلط للعين يبين؟ لأ يا خويا .. شاعر غلط ياكْـل السِّمين ..
وجلجلت ضحكتك وازورَّت بها عيناك وامتلأت بها كل تقاسيم وجهك .. ألم تكن عيناك الودودتين تضحكان قبل صوتك؟ جلسنا وحدنا في بلكونة غرفتك:
- شوف يا ابني .. السياسة داخلة فْ كباية المية اللي قدامنا دي هية .. داخلة فْ كلِّ نِصيبة تفكَّر فيها. بس انت شاعر .. وبرضك مالكش في السياسة. السياسة ليها أوانطجية وحبرتجية وآلاتية يعرفوا حواريها وكهوفها، يعرفوا يدوزنوا ويعزفوا أوتارها. إحنا يادوبك حيا الله .. شُـعَــرا .. مالناش في السياسة بس كل ما هتهرب منها بنت الكلب..هتلاقيك ع الناصية التانية .. لكن طالما انت شاعر فأنت حزب قائم لوحدو.. تقول للأعور عينك واحدة بايظه والتانية هتلحقها.. ما يسألك إلا اعور.

فلاش إلى الأمام:
-         يا خاااال .. قرأت أشعار صاحبك دكتور عبد المنعم عبد الباقي؟
-         آاا .. ياسيدى عبنعم صاحبك دا حاجة تانية خاالص .. جاني من لندن لباريز لما كنت هناك بيعالجوني وبعد ما رجع للندن، يوماتي يشقَّر عليا. منعم دا إنسانية ماشية على رجلين... بس قولي يا محمد انت بتفهم شعر عبمنعم؟ أظن النفسانية داخلة فيه .. مش هو دكتور نفساني؟
-         منعم لسه بيحب عطيات ويقدرها تقدير كبير
-         طب مالو .. أنا لساتي بقدر عطيات .. وهيا لساتها واخده اسمي .. مش برضك اسمها عطيات الأبنودي؟
سيبنا من دا ودا .. عملت إيه في الديوان؟ .. ياخويا شيبت وما طلتش تعملك حتة ديوان شعر. رسلتلك كل دواويني وياها الكاسيتات .. مع اختك الداكتورة نجلاء وزوجها المهلَّب .. دولا شباب حلوين زي الورد .. مش كانت قابلتهم في أبوظبي؟ ديه كانت حتة دين أمسية.
-         أنا يا خال جاهز ومنتظر المقدمة
-         هو ليه الوزير (3) قالك كدا؟ إبن الإيه .. هو فاكرك حيجروك عليهم والا إيه؟.. أولاد الأبالسة.
وفي الفندق:
-         شوف يا محمد .. انت تركب أول طيارة وتجيني ع المهندسين.

وكان بعد حين..
 (1)    الأستاذ مبارك المغربي رئيس المجلس القومي للآداب والفنون وقتها
(2)    هكذا كان يدعو (تدليلاً) زوجته الأولى المخرجة الفذة عطيات الأبنودي
(3)   
دعاه وزير الثقافة آن ذاك إلى عشاء في الريفيرا كنت في رفقته ولم أحفل بعشاء الوزير .. جائت سيرة ديواني الذي لم ير النور بعد.. ولا كنت أرى أفقاً ليصدر. قرر الوزير أنني الذي أرفض طباعته على نفقة الوزارة وقال ما يعني أنني لو ركبت قطارهم كان ديواني قد صدر. ورددت عليه بالشكر الجزيل .. الحامض.

حقوق النشر © القدال