الخميس، 16 أكتوبر 2014

 (عمر الدوش وضل الضحى(1

نهاية الوجيب ...بداية العمر ..

جريدة الصحافة 2000م
(1)

محمد طه القدال

عاد من تشيكوسلوفاكيا وهو يحمل درجة الماجستير في مجاله متخصصاً في مسرح (بيرتولد برشت) والبعض ينطقها (برخت)، ولكنه لم يكن ليعبأ كثيرا بالألقاب يركل كل ما من شأنه أن يوسع له في (الزيط) ويرحب بكل ما هو ومن هو بسيط في حركته اليومية، غير المتنطع أو المتحذلق. كان يحب أو لا يحب الناس بعد التقائهم ولا يعبأ بأصحاب المقام وبمن تسبقهم الألقاب كما كان المتمرد الفذ ذلك الجنوبي (أمل دنقل). لقد أراني الصديق الشاعر عبد الرحمن الأبنودي قطعاً أعلى حاجبه نتاج غضبة مضرية من دنقل، ولكن للدوش في تمرده مسالمة ووداعة ونصحاً. عاد من (التشيك) وما (داح) بالقرى والدساكر يعلى من صيته الشخصي ولكنه كان متواضعاً وواضحاً مثل (فلق الصباح) وشجاعاً شجاعة أخذها من أهله وهو له ذوق (اتيكيت) ورقة جلبهما من السفر في الدنيا العريضة و له معرفة لقدر نفسه ودراية بأقدار الآخرين. شد ما كان يكره الإدعاء وخاصة ادعاء العاطلين من كل موهبة. كان يعجب بالقصة التالية يحكيها كلما جاءت السانحة. يحكي أن جلسة ضمت الشاعر الشيخ الرئيس محمد المهدي المجذوب والشاعر الكبير النور عثمان أبكر والشاعر الصديق محمد محمد خير وآخرين وقد دخل عليهم شاب يريد أن يستمعوا لما كتب واعتقد جازماً أنه الشعر. طفق الشاب يلقي قصيدته ولكن الشاعر النور قد فطن إلى اضمحلال الشعر عند الشاب والشيخ المجذوب قد طأطأ الرأس يستزيده حتى أتى على آخر القصيدة فصمت الجميع وفجأة بادره المجذوب (يا بني .. أنت نبي) ولما ذهب الشاب إلى حال سبيله سأل النورُ الشيخَ لماذا تسبغ علية النبوة وهو على ما هو عليه من ضعف في الوزن والصرف؟ فأجابه المجذوب بجملة واحدة: ( ما علمناه الشعر وما ينبغي له). وكان الدوش يعجب بالرصانة و(يتسلطن) وهو يلقي أبيات الحاردلو الكبير:
(يا خالق الوجود أنا قلبي كاتم سرّو مالقيت دارك المعنى وعلية أبرّو قصبة منصح الوادي المخضر درّو قعدت قلبي تطوي وكل ساعة تفرّو)

كان يصرخ هزجاً ويقفز طرباً ويتمدد على السرير وينتصب جالساً مرة أخرى وهو يجمع إليه يديه ويرسلهما يمثل حركة (الطي والفر) ثم يضرب موضع قلبه براحته ويصيح ضاحكاً: (العربي مجنون .. علي الطلاق العربي مجنون .. بت الكب .. يا القضارف). كان يستزيد من شعر (الدوبيت) ويطلب عيونه وكان يكتب قصيدته المعلقة (ضل الضحى) عبر الأيام والشهور والسنين ولقد سمعت أول ما سمعت من أبياتها عند بداية قدومي من قريتي إلى العاصمة في بداية السبعينات:
(وانا كنت راجع منتهي لاقتني هي .. كبرت "كراعي" من الفرح، نص في الأرض ونص في النعالْ)

كنا نطرب لها يلقيها علينا الشاعر المتمرد الأكبر عادل عبد الرحمن رد الله غربته وكنت أظنها من شعره حتى نسبها إلى الدوش وما كنت قد التقيته قبلها. كان يكتب جزءً على ورقة بيضاء وبيتاً على ورقة صحيفة وهكذا ، وكان يضع ما يكتب في أي مكان لا يأبه أن يضيع .. وكان يقرأ على مهل ما يكتب على مهل وينهي قراءته مشيحاً بيده وضاحكاً ضحكته الساخرة ذات ( الشرتاب) . كنت أقول له إن لكل شاعر معلقته التي سوف يدور حولها معظم ما يلي من شعره وتكون الرؤى والأخيلة والصور استنساخاً بشكل أو بآخر لما دار في تلك القصيدة المعلقة وغالباً ما تكون تلك القصيدة في أول حياة الشاعر .. ولكنك الآن تكتب معلقتك وقد كتبت قبلها كل هذا الإرث العظيم فكأنك تقلب على الشعراء ما درجوا عليه وتحملهم ما لا طاقة لهم به. كانت إجابته دائماً سؤال التواضع الصادق: (تفتكر دي قصيدة كويسة؟) . كان يعيش بكل الصدق مع شخوص القصيدة. كان يرى العمدة رأي العين ولا يستسيغه ويقف منه موقفاً يقفه دائماً ضد المتجبرين ومع الضعفاء ولذلك فهو يعرف (ناس الحلة) فردا فردا. كانت علاقته بسعاد علاقة أزلية وتعاطفه إنسانيا مع علي ( ود سكينه) و طه المدرس ( ود خدوم) وتحريضه المستمر لهما ليتمردا على العمدة. ثم الشخصية الهامة لأقصى درجة (الراوي) وعلاقته بعمر الطيب الدوش .....و..

دقت الدلوكة .. قلنا:
(الدنيا ما زالت بخير .. أهو ناس تعرس .. وتنبسِطْ )
تكَّكتَ سروالي الطويل .. سوّّيتلو رقعات .. في الوسِط.ْ في خشمي .. عضيت القميصْ أجري و أزبّد.. شوق..وانطْ. لامن وصلت الحفلة .. زاحمت الخلقْ. وركزتَ.. شان البِتْ سعادْ. أصلي عارف جـِنّها في زول بيركزْ ... وينسترْ.
(يـتـبـع)

حقوق النشر © القدال