الاثنين، 22 سبتمبر 2014

تقدمة في كتاب (يابا مع السلامة)

محجوب شريف
النفسُ المُطْمَئِنَّة .. النفس المُطَمْئِنَة    
إن في سمات الشخصية السويَّة سِمَة من الإطمئنان تحيل الطمأنينة إلى مَن وما حولها. مُطْمَئِنَّة لكونها متوائمة مع نفسها بقناعاتها ومتوائمة مع بيئتها المحيطة باحتمالاتها المختلفة، ومع البشر القريب منهم والبعيد، شعوراً أو مكاناً.
كان وجود محجوب في أي مكان يسبغُ على ذلك المكان احتشاداتٍ واحتمالاتٍ بشيوع المودة والإطمئنان. فشخصية محجوب من الإستواء والثبات بحيث ترسل إليك اشعاعات التضاد المحبب، البساطة والمهابة معاً في آن واحد. فلا تملك إلا أن توادده وتتقرب إليه بأكثر من تقربه إليك، طوعاً واختياراً يدعم هذا بما له فراسة نافذة في اكتشاف البشر وسبر أغوارهم من الوهلة الأولى. فالمهابة تنفذ إليك من خلال الرصانة في المعاملة والحكمة في الرأي، والإيمان الدافق بما يرى فيصل معك إلى كلمة سواء بالمنطق البسيط الذي يتوخى أقرب السبل في اللغة توصيلاً وبأحب إشارات المحبة والاحترام. تبتعد لغته في (ونسته) العادية وفي شعره عن اللغو وحشو الكلام والتزيُّدِ في القول وتكرار المعاني. لأن في داخله تقدير عامر لفطنة السامع وعقل المتلقي يستوي عنده في ذلك الرجل والمرأة، وينتصر، بالحق، في كل الأحيان للمرأة في حال استقواء ذوو الأشناب عليها بالباطل.
يزيدك اطمئناناً فيقنعك وهو في أشقِّ أحواله الصحية العصيبة أن الأمور (يا زول تمام التمام .. ومافي أي عوجة) ويمدد الألف في (تمام) ويشدد ويمدد الياء في (أي) حتى تحس أن العوجة نفسها قد اقتنعت بعدم وجودها.
كان نفساً مطْـمَئِنَّة في ذاتها بثبات قناعاتها في كل قضية من قضايا الوجود والموت والحياة والسياسة والبيئة وتفاصيل اليومي والعادي، والفقر والغنى والمرأة والرجل والشباب من الجنسين. كان أبعد ما يكون عن مثالب النفس الأمارة من الخوف والحسد والبغض والشحناء والكذب وأقرب ما يكون إلى حب الناس وحب الخير لهم، ابتداءً من أسرته الصغيرة إلى كل الناس وكل الوطن.ولذلك تجد واحدة من أبلغ أمانيه أن يكون مقام هذا الوجود مقاماً طيباً للناس كافة وللوطن وللموجودات جميعها. كان الوطن عنده أبعد وأكبر من تفاصيل حيِّـزه الجغرافي المعروف. فالمستشفى عنده يجب أن تحل محل السجن بديلاً أكثر نفعاً وذلك احتفاءً منه بطلاقة العافية مقابل انغلاق المحابس، والزغاريد مقابل لعلعة طلقات السلاح حتي يسكن الأطفال وترتاح العصافير سكناً وراحة دائمين في وعيه وفي قصيدته. كل هذا الانتماء الإيجابي للوجود الخيِّر والطيِّب كان من منطلق إنساني بحت وترجمَهُ عملياً في بحثه المستمر لتفجير الخيِّر والطيِّب في دواخل الناس عبر رد الجميل والنفاج وجمع المركون منه في قلوب الناس قبل بيوتهم. نمت هذه الوجهة الإنسانية في داخل قلب محجوب منذ الصغر، في الطفولة، وقبل أن يلتقي الأيديولوجيا، مع التسليم أن الأخيرة قد أدت إلى تعميق الإنساني فيه. ولو أنه كان قد اكتشف غير ذلك فيها لركلها بفطرته الصافية وبعقله الراجح. لذلك أيضاً لم يكن محجوب ليشترط التلاقي الفكري كي يتيح مداخل التوادد والتعامل بينه والآخر. كان يكفيه الموقف الإنساني الواضح كي يشرع أبواب قلبه ويفتح بتِـلَّات حبه. ونداءاتُه كانت للناس كافة ليبادلوه إيثاراً بإيثارٍ بالتخلي طوعاً عن ما زاد عن الحاجة من أجل الناس المحتاجة، كانت تلك الفوائض محبةً أو حتى (كراكيب) نعلين. وتقديم المحبة كان على الدوام أحب إليه. واحتفاؤه بعبد الرحمن نقد الله في رقدته المهيبة والمتطاولة يرينا تجاوز محجوب لأسوار الحزب إلى الحوش الإنساني الكبير. إن مبتغى فكرة النفاج عند محجوب أبعد من انفتاح البيوت على البيوت والحيشان على بعضها، إلى تلاقي الإنسان مع أخيه الإنسان لتنفتح القلوب على القلوب.
سوف يستمر الناس في الكتابة لأزمان لا تنتهي عن محجوب وعن حميد وعن وردي وعن كل الشموس التي رحلت عن دنيانا. وبعض الأصدقاء من الذين كتبوا عن محجوب في هذا الكتاب الأول ربما لم يلتقِ محجوب كفاحاً في حياته أو التقاه عجالةً، ولكن وصَل إليه إشعاع محجوب ونادته مودته وحفزه صدقه على الكتابة عنه كتابة معرفة لصيقة. فالشكر لكل من سطر كلمة في حقه والشكر للأستاذة أميرة وللحبيبات مريم ومي بالسماح، وللأستاذة رباح الصادق لسهرها الليالي على جمع وأعداد هذا الكتاب من الأسافير والصحف أيضا نُثمن مجهود لجنة تحريرالكتاب وهم حسب ترتيبهم أبجدياً الاستاذة أميرة الجزولي، الاستاذ حسن الجزولي، الاستاذ فيصل محمد صالح، الاستاذ محمد لطيف والاستاذة مريم محجوب. الشكر الي كل من كتب ولم نستطع إدراج ما كتب في هذا الجزء. آملين أن نتيسَّر على طباعة ونشر كل ما كُـتب عنه في أجزاء قادمات. وأنا هنا أنوب عن الكافة بجملتنا السودانية الشهيرة والغريبة على فهم شعوب أخرى (لا شكر على واجب). لقد كان همه في حياته أن نسارع إلى رد الجميل وها نحن نسير على دربه في الحب والصبر ورد الجميل ولن نفي حتى بالقليل مما كان يفعل بهمة ودأب حتي آخر يوم من حياته القصيرة بحساب السنين الفارهة بالعمل النافع، عليه رحمة الله الواسعة.
وتتَّكي سنبلاية على ضراعي .. واميل
كأني غُـنا الطفولة العَـذبْ
كأن الدنيا طَيَّ القلبِ
والمنديل.

محمد طه القدال


مسقط – 1 مايو 2014م

حقوق النشر © القدال