الأربعاء، 20 مايو 2015

رسائل إلى الخال رُمَّان(5) الاسماعيلية - الوداع
 فاطمة القدال، الخال، رؤى القدال أم خالد، وأمهما آمنة القدال
 فاطمة الآن في الماجستير بجامعة التقانة ورؤى تخرجت في المعامل الطبية في جامعة الرباط وأمهما ما زالت معلمة
الوقوف من اليمين: ياسر العوض، والمهندسون: محمد ابراهيم طه القدال، الواثق ثم وائل محمد طه القدال
فالعملاقان وردي والخال



-         وبعدين معاك يا رُمَّان!!
زيِّ ما بتناديك العَمَّة "يامنة"
-         طب انت مش قلتلي يوم نَـشَـر الجرابيع إشاعة موتك:
(يعني يا مْحمد .. يعني حاموت قبلِ ما اقولَّك؟؟)
-         طب اهو انت راخر رحت يا خال، وما قلتليش ولا عبّرتنيش.
----------------------------------------------------------------------------------------------------------

صار الهاتف بيننا. لأقول لك كل سنة وانت طيب ولأسأل عن صحتك وأتابع تطورات علاجك ولأعزيك في من رحل من أصدقائك. أتصل عليك كلما توفي واحدٌ من أحبابك. يتدفق أساك عليهم عبر الأثير.

البركة فيكم يا خال .. في أمل

-         دنقل راح يا محمد .. دا كان بيناتنا عُمْر
-         عميري اتخطف يا محمد .. يا عيني عليه وعلى شبابو
-         راحوا الحبايب يا محمد .. يا حسرة عليك يا ناجي
وفي كل محادثة بعد فراق أي واحد من الأصدقاء تأتي زفراتك حرى من على الهاتف
-         رحل نجيب (محفوظ) يا محمد
-         أهو بيتسللوا مننا واحد واحد .. آااااااه يا محمود يا درويش
-         يا خسارتنا فيك يا حميد .. كان نفسنى ألاقيه
-         يااااه يا محجوب شريف

في كل مرة يتجدد أساك..

أسألك في أربعينية محجوب أن تخاطب الحشود المتجمعة في (بيت الشعب)عبر الهاتف:

-         حاضر بس مش برضك الواجب الأول لما اتكلم مع أميرة والبنتين (مريم ومي)؟

كان حديثك إليهما مسعداً وبلسماً رغم جراحهن العميقة في فقدهن محجوبهن، محبوبهن ومحجوبنا ومحبوبنا كلنا. ولكن محجوب القوي علمهن كما علمنا القوة وتجاوز الحزن السالب إلى الفعل الموجب. وكان حديثك في الاحتفالية مساءً للجموع المحتشدة بميدان (بيت الشعب) حديث أخ شاعر ورفيق مناضل وصديق يعرف قيمة محجوب وعزة وطنه وصمود شعبه.
كان بينكما تشابه غريب، كما التوأم.
كتبتما السهل الممتنع بلسان الناس العاديين، عشتما بساطة الحياة بعفوية الأطفال، رفضتما تكبر وعنجهية الديكتاتورية فذقتما سجونها، غنيتما لوطنيكما، كما غنيتما للإنسان في كل مكان، أحببتما الطرفة ورويتما النكتة الذكية عفو الخاطر، أحبكما الناس في وطنيكما وأسبغاء عليكما ما يحبون من ألقاب مضت عليكما والتصقت بكما حتى الرحيل وبعد الرحيل. فأنت (خال الشعب) وهو (شاعر الشعب) أحببتما وأنجب كلٌ منكما بنتين كل بنت منهن قمر منير غرستما فيهن الصبر ورجاحة العقل. وأخيراً أصبتما بنفس الداء في صدريكما وصبرتما على العلة صبر الأنبياء ورحلتما عنا وأنتما تكتبان الشعر من تحت كمامة الأكسجين.

هاتفتك مرة أستفسر عن الصحة.
-         لأ المرة دي أنا مش كويس يا محمد. الدكتور بيقول إن الرئة متناقصة بشكل مريع. الريس (السيسي) أصرَّ إن انا أروح على باريس بس أنا رفضت.. مافيش فايدة.. مانا رحت قبليها .. بعزقة فلوس يعني؟
-         شوف يا خال .. وقت قريب إن شاء الله وأكون معاك.
-         والله مش عارف .. يمكن تلحقني أو ما تلحقنيش.
كان صوتك متعباً .. تأتي الكحة بين كلمتك أو تأتي كلماتك من خلال الكحة.. أشعر بالخوف

تخرج بين الفينة والأخرى شائعة وفاتك على وسائط التواصل الاجتماعي.. يطلقها الأفاقون والحاسدون والذين في قلوبهم مرض. أهرع إلى تويتر فأجد موالك اليومي فأطمئن قليلاً وأسارع إلى الخمسة من أرقام هواتفك .. أحاول الأول فلا يجيب والثاني والثالث فيأتيني صوتك أجشَّاً يطمئن رغم الوهن:

-         بتطمَّن عليا يا محمد بعد ما عرفت إنهم موتوني على الفيسبوك؟ والله فيك البركة. همَّ هيموِّتوني قبل يومي .. أولاد الأبالسة؟ لا يا سيدي قول لهم أنا ما مُتِّش لحد دالوقت .. يعني يا مْحمد .. يعني حاموت قبلِ ما اقولَّك؟
ونضحك ضحكتنا
مساءً يهاتفني الحبيب أزهري بعد يومين:

-         إيه رأيك نسافر اسماعيلية للخال
-         طواااالي.. والله ود حلال يا حبيب .. كنت أتحث معه قبل يومين وقلت له أجيك في اسماعيلية. ح أكلم فاضلابي في القاهرة يلاقينا في المطار ومن هناك إلي الإسماعيلية مباشرة.
وكان أن جاء فاضلابي وجمال ود كري وقد جمعا حروف الشين ثلاث، الشباب والشهامة والشعر.. وتهنا بين ترع الإسماعيلية مرة ثانية .. أو تاهت منا (الضبعية) ..
وكان اللقاء المرح وأنت تتحامل على نفسك .. كنا نرى فرحتك بالزيارة جلية. أتيت من الغرفة وأنت تتكئ على عصاك. جلست وأنت (تجابد) النفس..
-         يا مرحبا .. خليني آخد نفسي الأول.
وحكيت لنا هذه المرة. حكيت عن كيف فلحت هذه الأرض وهيأتها لتكون أرضاً طيبة بعد أن كانت سبخة مالحة غير مفيدة.
وقلت لنا مقطعاً (مرباع .. موال) موجه لمرسي. وحكيت وحكيت حتى رفقنا بك من كثرة الحكي.
وضحكنا ضحكتنا
أكلنا عندك وأنت تتعامل بكرم الفلاحين .. قضينا معك سحابة النهار .. وعندما قمنا للوداع قمت من دون عصاة. كان أثر الزيارة واضحاً عليك. كانت روحك عالية ونكتتك حاضرة. قال لنا من كان يقوم مقام (محمود): .. لأول مرة أرى الخال يودع زائراً خارج بوابة آية نور. والسيارة تبتعد في زقاق آية ونور، ألتفت لأراك من وراء زجاج السيارة ماتزال واقفاً أمام البوابة تلوح لنا مودعاً وما كنت أظنها لحظات الوداع الأخير.
عرجنا على دار (محمود) الذي يرقد ورجله في الجبس وكان قد تعرض لحادث كسر أبعده عنك لشهور.
أهاتفك في كل عيدٍ لميلادك في ليلة عيدك التي تسبق يوم عيدك إلا عيدك الأخير.. ذكرتنيه نعمة شقيقة بلقيس عوض وهنَّ من أقرب أصدقائك. تحدثت إليك في 11 أبريل يوم عيدك. وكان صوتك ضعيفاً وأخبرت أزهري ليتصل عليك وكذلك بلقيس وهند بنت عثمان وكل أسرتها لمطايبتك في ذاك اليوم.

-         سلامات يا خال .. كل سنة وانت طيب وبألف خير وربنا يديك الصحة والعافية وتقوم لينا وانت تمام التمام.
-         أقوم على فين يا محمد؟ دانا ليا كام يوم في المستشفى .. الحمد لله .. طول ما بسمع صوتك وبتتصل بيا فأنا كويس.

نغمة أسمعها لأول مرة .. كنت دائماً تطمئن من حولك بأنك ما زلت بخير. أحسست بعدها بالخوف وهذه المرة بالحزن أيضاً. هاتفتك بعد ثلاثة أيام وأنت ما زلت بالمستشفى.. ازداد الصوت ضعفاً

-         الرئة يا محمد .. باقي منها يجي أصغر من نص كفة الإيد.. وحتى الباقي منها مش شايف شغلُه.

كانت نهال بقربك في الغرفة تسمع حديثنا كما قالت لي لاحقاً وأنا أعزيها ونفسي بعد الوفاة. تحدثت إلى محمود وهو يشرق بعبرة الحزن. سألته (إن كان بشوف نهال والبنات وبيمر عليهم)
-         ما انا قاعد ويَّاهم هاسيبهم إزاي أنا معهم في البيت؟
يا لك من شهم وفيّ يا محمود. ومش حانسيبهم كمان يا خال.
 لم أتحدث إلى آية ونور بعد ولا أدري متى سوف أتحدث إليهما. تابعت عربة الجثمان من شاشة التلفزيون وهي تنقلك إلى مثواك الأخير، كان نقلاً مباشراً يشمل المعنيين. من الحياة إلى الدار الآخرة ومن الحياة إلى المشاهدين في جميع أنحاء العالم. بكى القلب وماستطاعت العين. لقد تحجرت منابع الدمع يا صديقي منذ سنين. توفيت الحرم والدتي على يدي ورحل إبراهيم شقيقي على يدي ومضي حميد وكنت واحداً من اثنين وصلا إليه في المستشفى الذي كان يرقد فيه جسداً بعد الحادث وغادرنا محجوب وأنا أقرأ عليه القرآن في غرفته بمستشفى تقى.. ماعادت هنالك دموع يا صديقي .. هو بكاء القلب .. فقط .. القلب.

انقضت الأيام والسنون وتسربت منا كما يتسرب الماء من بين الأصابع
أربعون عاماً ونيف مضين من الود الصادق والمحبة التي ليس فيها دَخَل.
مددت لي يدك وأعنتني ونوَّهت بي، كشاعرِ، في المحافل.
أحببت السودان والسودانيين واعتززت بعشقهم لشعرك، وكثر بينهم أصدقاؤك أفراداً وعوائلا.
أحببت مصر والمصريين حباً ملك عليك شغاف قلبك.
أحببت الإنسان كإنسان في جميع الناس الطيبين الفقراء والمساكين.
عشت عمرك في العمل الجاد المفيد شعراً وبحثاً وجمعاً للتراث.
فأحبك الناس جميعاً وكثيراً...
كما أحببتهم.

أرسل لك ما أرسلت فاطنة لحراجي:

(كل الجبلاية تسلم فرداً فرد..
مِ الحاج "طِلب حامد" لعيلِّة بيت "علي سعد"
وانشالله يا حراجي ما يورّيني فيك يوم
وانشالله تكون تعلمت تردّ قوام..
وما دمنا احنا رسينا عالعنوان
والله ما حنبطّل بَعَتان..
مفهوم..
أسوان..
فاطنة احمد عبد الغفار
جبلاية الفار)

ليرحمك الرحمن الرحيم يا عبد الرحمان
ولينزل على قبرك شآبيب الرحمة والمغفرة ولينزلك منزل صدق.
  

حقوق النشر © القدال