الأحد، 8 يونيو 2014











مَجــالُ  الجَمــالِ

(1)
محمّد طه القدّال
كما للجمال تعريفاتُه فله أيضاً مجالاتُه. وسوف يتناول هذا الباب مجالات الجمال في حياتنا الثقافية والاجتماعية. ومن البدهيِّ أن الجمال نسبيّ. فما أراه على مشارف الجمال قد تراه في وهاد القبح والعكسُ صحيح. ولجميع الناس معاييرهم الخاصة لقياس درجات الجمال والقبح تتراوح بين الدقة الحاذقة والتراخي الخامل. وليس كل ما سوف يطرح في هذا الباب ينتمي إلى القول الفصل والحكم النهائي. ولكنه رأي من جملة آراء تلتقي في بعض المعارج وتفترق في بعضها وفي كل الأحوال يلتزم أدب الاختلاف ويؤسس للغة لا تنتمي إلى سجِّيل لغة التعالي والتحدي الذين يقذفنا بهما بعض الساسة صباح مساء، ولا ينتهج لغة الإثارة التي جعلها بعض ممن أخذ بالقلم مطية للاغتناء. ومثلما لكل موجب سالب فإن لكل جمال ما يقابله من القبح. والجمال ظاهر بذاته وبصفاته غير أن مقولة (الضدّ يظهرُ حسنَه الضدُّ) تظل من المقولات الموفقة. ومثلما نتناول الجميل من مظاهرنا الثقافية والاجتماعية بإضاءتها وإبرازها بعرضها في أبهى صورها، فلن نألو جهداً حتى نرصد القبيح ونبرزه للرائي ثم نجلده (جلد غرائب الإبلِ). وكذلك قد قيل أنه ليس من طفلٍ قبيح. فكل الطفولة جمالٌ بصرف النظر عن الشكل أو اللون أو العرق. ويكمن جمال الطفولة في البراءة والفطرة وفي العافية الأولى الناضحة من لبن الأم بصرف النظر عن شكل أو لون الأم أو عرقها. ونهدف في هذا الباب إلى السعي لإعادة جواهر هذه المجالات إلى براءتها الأولى، حيث جمالها الفطري، لكي نرى جلياً مدى الانحراف عن المسار فيبين القبح فنرمقه باللين حيناً ونلهب ظهره بسياط النقد اللاذع إذا غلا واستفحل. وفي ثقافاتنا المختلفة مراتع للجمال تجل عن التعداد والمتابعة والرصد كما فيها أيضاً من النواقص التي تترقب القادرين على التمام حتى يعيدوها إلى المسار الصحيح. ففي غنائنا قديمه وحديثه جمال ينتظر من يجلوه لكي يُرى في تمام بهائه وفيه من القبح أيضا مما لا ينفع فيه الوصف (بالهبوط) والإسفاف دونما تفصيل وتسبيب. فلربما يقف هذا الباب على لحظة من الجمال في ثنايا قصيدة أو بين حنايا أغنية أو وجه من وجوه أي فعل ثقافي أومسلك اجتماعي فيريه بهياً للقارئ، ولربما يقبض على غفلة قبح في ما سبق ذكره فيبين لم هو منحرف وكم هو زائغ عن مسار الجمال، هابط إلى مزالق القبح. والجمالُ والقبحُ صنوان متنافران. فالصدقُ جمالٌ والكذبُ قبحٌ، والخيرُ جمالٌ والشرُّ قبحُ، والموسيقى جمالٌ و(الشتارة) قبحٌ، والأمانةُ جمالٌ و (السفسفة) قبحٌ، والأدبُ جمالٌ و(الجلافة) قبحٌ، والتبسُّم جمالٌ والتجهُّم قبحٌ، والطلاقةُ جمالٌ والتزمتُ قبحٌ، والتوسُّطُ جمالٌ والتطرفُ قبحٌ، والفنُ بجميع ضروبه جمالٌ ونفي الفنون قبحٌ، والتبسُّط جمالٌ والتنطُّع قبحٌ، والتفاؤلُ جمالٌ والتشاؤمُ قبحٌ، وروحُ الشباب جمالٌ ولو سكنت إلى جسد شيخٍ هرمٍ والشعورُ بالعجزِ قبحٌ ولو كان في قلبِ شابٍ فتيٍّ. والتراضي جمالٌ والتطاحنُ قبحٌ، والقوة في موضع القوة جمالٌ وفي غيرموضعها قبحٌ، والتواضع في موضعه جمالٌ وفي غير موضع التواضع ضعفٌ وقبحٌ، وسماحةُ الأخلاقِ جمالٌ واللؤمُ قبحٌ، والاعترافُ بوجودِ الآخر جمالٌ ونفي الآخر قبحٌ، والتوحدُ جمالٌ والتفرُّقُ قبحٌ، والسلامُ جمالٌ والحربُ قبحٌ. فانظر كم في دنيانا هذه وفي مجتمعنا خاصة من (صنوف) الجمال وكم فيه من ضروب القبح؟ وكم يتوجب علينا من جهد لتبيان الجميل والقبيح فينا؟ وكم حلقة من حلقات هذا الباب سوف تأتي؟ وقديماً قال إليا أبو ماضي:
أيّهذا المشتكي وما بك داءٌ                          كيف تغدو اذا غدوتَ عليلا؟
انّ شرّ الجناة في الأرض نفسٌ                        تتوخّى، قبل الرّحيل ، الرّحيلا
وترى الشّوكَ في الورودِ، وتعمى                     أن ترى فوقها النّدى إكليلا
هو عبءٌ على الحياة ثقيلٌ                           من يظنّ الحياةَ عبئاً ثقيلا
والذي نفسُه بغير جمالٍ                             لا يرى في الوجودِ شيئاً جميلا


تم النشر: عقد الفنون الثلاثاء 2 أغسطس 2011م 


حقوق النشر © القدال