الثلاثاء، 10 يونيو 2014


                                     جـِـنان الحقائق                                  

القراء الأعزاء:
اليوم أبدأ ما انقطع بيني وبينكم أيها الأذكياء، من تواصل كنت قد بدأته قبلاً بصحيفة الصحافة الغراء وحافزي في العود يأتيني من القراء أنفسهم في اهتمامهم بما كتبت وبسؤالهم عن أسباب الانقطاع وبإلحاحهم الحميم لأعاود الكتابة وكل ذلك باعث لسعادتي. وأظنني  قد أوضحت في مناسبات عديدة أن كتابة المقال هو بمثابة وأد قصيدة لدى الشاعر لأن مواضيع الكتابة لدى الشاعر احتشادية تراكمية ذات أشتات عديدة كل شتٍّ منها يمكن بدوره أن يكون قصيدة بذاتها فإذا انفلت بعضٌ من هذا الاحتشاد إلى غير القصيدة ربما تأتي القصيدة خداجاً (بنت سبعة)، ليس بمقياس ما يجب أن تستمتع به القصيدة من زمن لتخرج إلى الوجود ولكن بمقدار ما يتسرب منها من عاطفة ومن صور ومن مواضيع كان يمكن أن ترفدها بالبهاء اللازم لتكون القصيدة (بت تسعة). وبرغم حقيقة ما ذكرت فلا يعني هذا أن الشاعر عليه أن ينغلق في سراديب الكتابة على الشعر فقط لأن بالمقابل هنالك ضروب من الكتابة لا ينفع فيها الشعر إلا قليلا. فالكتابة النقدية مثلاً تصح بالمقالة التحليلية ولا تنفع فيها القصيدة والأمثلة عديدة. لكل ذلك كنت أظن أنني أكون أحرص على القصيدة بانقطاعي عن كتابة المقال. ولكني يجب أن أصدقكم القول. كانت الذاكرة قوية تساعد على الاحتشاد والتراكم والهضم والاستدعاء في لحظة الكتابة ولكنها ما عادت بذات القوة بفعل السنين. وبالرغم من أن كتابة القصيدة ما كانت على مَـرِّ تجربتي عملاً يوميا أو شهريا أو سنوياً موقوتاً إلا أن للذاكرة اليد الطولى في استدعاء المخزون من التجارب لكتابة القصيدة. وبعيداً عن مقولات الإلهام في لحظة ولادة القصيدة، وأنا لا أثق بكذا مقولات، فإنه لا يصح أيضاً انتظار سنين عددا لتخرج القصيدة ثم لا تخرج، وفي نفس الوقت تمر من أمامك مواضيع في قضايا مصيرية ترجوك أن تدلو فيها بدلوك. فإن تركتها تمضي وأنت تتلفت أضعت لحظتك التاريخية وذلك بعد إضاعتك القصيدة التي ترجوها، وقد خذلك انتظار المدعو الإلهام. وهذا ينطبق عليَّ شخصياً وعلى الشعراء جميعاً. وإني لجد سعيد ومثمِّن لكتابات الأساتذة الشعراء الراتبة مثل ما كان يفعل الأستاذ مصطفى سند عليه رحمة الله وما يقوم به الشعراء بشرى الفاضل وكمال الجزولي والصادق الرضي. والآن أعود للكتابة في هذه الصحيفة الوليدة وأرجو لها الاستمرار والانتشار وأشكر للأستاذ الطاهر ساتي حرصه على استضافتي فيها. ولأن الصحيفة اسمها الحقيقة فأرجو أن يكون مقالي الأسبوعي مشرئباً للحقيقة ساعياً إليها وشارباً منها عباً ونهلاً. وسوف تنزل مقالاتي الأسبوعية تحت العنوان المستمر (جنان الحقائق). والجنة لها ظلال وثمار مختلفة وأرجو أن يتفيأ الجميع ظلالها وأن يقطف الجميع ثمارها. ونصغّرها في دارجيتنا تحبيباً فنقول (جنينه). والمقالات في هذه الجنان تتنوع في مواضيعها كتنوع الثمار من الأدبي إلى السياسي وغيرهما. والحقيقة الحقيقة لا تؤذي أبداً بل تفيد. تفيد قائلها وتفيد قارئها وتفيد البشرية جميعها ولكن العبرة في الكيفية التي تقال بها لتصل إلى متلقيها وهو يبتسم برغم مرارة الحلق بفعل قوة ونفاذ طعم الحقيقة. والكيفية التي يتقبل بها المتلقي المعني من سعة الصدر والأفق معاً. وتحتاج الحقيقة إلى صدق التوجه وأنسنته ( من إنسانية) فهنالك من يقول بالحق ولكن لغايات تخصه شخصياً ولا تخص الحقيقة الباهرة التي فيها نفع الخلق وتقدمهم. والحقيقة ضالة المؤمن كما الحكمة. وقديماً كان الفلاسفة ينشدونها بالتفكير العميق في حقائق الكون ليصلوا إلى الحقيقة الكبرى. وهي ضالة الشعراء يصدعون بها حالما يجدونها وهي أيضاً ضالة الساسة ولكن لهم طرائق قِدداً في إخراجها للبشر وقفاً على ظرفهم الشخصي وظرف أحزابهم وربما (كمسدوها) دفناً. لذلك جاء مصطلح الشفافية في العمل السياسي وهي ببساطة تعني وجوب تمليك الناس الحقائق. والشعراء من أولع الناس بالحقيقة وهم الأجرأ على الجهر بها كأنما يتحرقون لقولها ويسعون دأباً للعثور عليها وهذا مما جعلهم والسياسي في طريقين متنافرين. ولو كان ساستنا على حصافة لفرحوا بمن ينير لهم الطريق الحق واستغنوا عمن يطبل لهم ويقلب لهم حقائق الأشياء بالمقولة السمجة (كُـلُّو تمام يا ريِّس) وهم أول من يعلم أن تمام الأشياء كل الأشياء واكتمالها من المستحيلات. فانظر إلى حالنا الآن بسبب (كُـلُّو تمام يا ريِّس). الوطن الآن في حالة انعدام اليقين في الثوابت الراسخة وأصدق تشخيص لحالنا هو أننا الآن في حالة من حالات (الشك القومي). شكٌّ في أسّ الوجود القوميّ. شكٌ في وحدة تراب الوطن وهل سيظل واحداً أم سيصبح السودان سودانين (على الأقل)؟ وماذا عن الأقاليم الأخرى؟ شكٌ في مصير  النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور وفي نهايات المشورة الشعبية شك في آبيي وحلايب وهل سيُفتحُ ملفُها في يوم من الأيام أم ستقبع في آخر قائمة الأولويات كما ظلت، إن لم تكن خارج الأولويات أصلاً. شكٌ في مصير الانتخابات (الهادية حتى الآن)، أتمضي إلى منتهاها أم يتم وأدها بواسطة الفرقاء جميعاً بما في ذلك أخطاء مفوضية الانتخابات نفسها وشكٌ في مصير الانسحابات إذ لا يكاد المنسحبون ينطقون بالانسحاب حتى يعودوا ثم هم ينسحبون مرة أخرى. شكٌ في عملية ومآلات نتيجة الانتخاب أهي مبرّأة أم محّورة أم مزوّرة. شكٌ عارم. شكٌ قوميٍّ في كل شئ. شكٌ صبغ حياة كل فرد في الأمة بظلال رمادية وجعل كل فرد كمن يتخبط من المسِّ شك يجعل الناس نهباً للشائعات والأوهام لأنهم صعبَ عليهم التحصُّن باليقين وهو غائب. فإذا جاءت الكلاب الضالة, وهي حقيقة، لازمتها قصص من الهلع القومي وإن قال واحد من الركاب في حافلة ما أنه سمع أن الانتخابات سيكون دمُها إلى الركاب بات الناس نهب الهواجس وأصبحت الخرطوم (فاضياااااااااه) وتشبث الناس بأوهام المشعوذين والسحرة طلباً لطمأنينة غير موجودة فإذا انتهكت حرمة قبور الأطفال من بعض المجرمين لغرض ما صُبَّ زيت الهوس على نار اللايقين. أصبح رب المنزل ينهض منتصف الليل  ليتأكد من باب منزله أمغلق هو أم مشرع وقد كان أغلقه بنفسه قبل ذلك بساعة. وهو الذي إذا نُقر باب بيته تساءل أهو ضيف أم جبايات النفايات والمياه؟ وأضحى الخارج من منزله غير متأكد من عودته إليه بسبب مخبول في الطريق العام يحمل سكيناً أو يقود حافلة. وأضحي الطالب في شك من إمكانية تخرجه في جامعته فإن تخرج أضحي في شك من إمكانات أن يجد عملاً فإن وجد عملاً أضحى في شك من الاستمرار فيه إن لم يكن من الأهل أو الحزب أو القبيلة أو الجهة. ما الذي أفضى بنا إلى هذا الإسفاف السلوكي؟ غير شكٍ قومي يسعى إلى وأد مستقبل وطن بكامله. ونتيجة كل ذلك هذا التخبط العام في القرار وفي المسار وفي بشاعة  الحوار. ما الذي يجعل أباً يقذف زوجه وبنتيه بماء الحمض فيشوه ثلاثتهن ويقتل اثنتين  ثم يُجَـنُّ هو؟ ما الذي يجعل أرواح الناس  تتقافز إلى حلاقيمها لمجرد حوار عادي ليقتل الولد والده والصديق صديقه والأب ولده أو ابنته والطالب زميله أو زميلته؟ ماذا أصاب الناس غير الشك في كل شئ، شكٌ في الوجود والقيم والأخلاق والعرف والقانون. ومن المضحكات المبكيات هذا التساؤل: ما الذي يجعل علمين سامقين من شعرائنا مثل الأستاذين الكريمين  محمد علي أبو قطاطي ومحمد يوسف موسى يتنابذان بالألقاب بعد هذا العمر المديد من المودة والزمالة، وكلاهما يعاني ما يعاني من الفاقة والمرض. لا سبب غير الشك في الثوابت. هل هذه الصورة قاتمة وسوداوية ومثيرة للإحباط؟ نعم هي كذلك ولكني لن أجملها لكم قط. هذا ما وصلنا إليه وأكثر. ويمكنني المضيٌّ في تعداد ما نحن عليه من محن حتى يقول القائل منكم كفى. فقط أريدكم جميعاً النظر إليها بعين فاحصة وبصيرة نافذة حتى يتسنى لنا الخروج منها بأقل الخسائر وبعدها يمكننا النظر إلى الأمام ورؤية المستقبل وأهدافه بوضوح. لقد مرت أمم كثيرة قبلنا بمثل ما نمر به الآن وأفدح. كانت ألمانيا بعد الحرب تعاني جراحها انقساماً وتشتتاً قومياً وأسرياً ودماراً شاملاً وفقراً مدقعاً حتى صار الفرد يحمل سلة ممتلئة بالفلوس لشراء (ساندويتش) وما كان الحال في إنجلترا واليابان وإيطاليا وجميع أوروبا وحتى أمريكا بأفضل من ذلك. لكنهم خرجوا جميعاً من المحنة في ظرف ثلاثين عاماً فقط. نحن احتجنا لضعف هذه السنين لا لكي نخرج من محننا ولكن لنضاعـفها. في زمان كزماننا هذا وظرف مثل ظرفنا الآني بكل هذه الشكوك واللا يقين القوميين، يكون المآل إلى اثنين لا ثالث لهما: (فوضى وطنية شاملة) أو (خمود جزئي)  وكلاهما مرٌّ وأفضلهما الأخير. لنتجنب الفوضى. فإذا انفرط العقد فإن الصومال التي ظلت قرابة أربعة عقود مثالا للفوضى القومية، لن تظل المثال الأمثل. ونحن بمقوماتنا البشرية والمادية يمكننا تجنب الفوضى. ويمكننا الصمود أمام العاصفة حتى تمرّ فيأتينا اليقين. وأقولها بوضوح كما أراها. سوف تمر عاصفة الانتخابات بإخفاقاتها ونجاحاتها وأرجو أن تمرّ بسلام فتزول على الأقل الشكوك العالقة بها وبمآلهما. وسوف يأتي الاستفتاء بنتيجته الفالقة إما الوحدة أو الانفصال ويمرُّ شكُّه وأرجو أن يمر بسلام، فنكون قد تركنا خلفنا خميرة من خمائر اللايقين. ويقول بعدها الناس في المشورة الشعبية كلمتهم وتزول بؤرة من بؤر الشك. ماذا تبقى من الشكوك القومية؟ ما تبقى مقدور عليه. حين يتناقص الشك القومي الشامل من باب بعيد عن الفوضى الشاملة، يتنامى اليقين بين الناس ويتنامى الثبات القومي وتتضح الرؤيا ويتحول (الخمود الجزئي) إلى حراك جزئي في البدء ويصير إلى حراك وطني شامل فيما بعد. حراك ينظر إلى الوجود الوطني الراهن بعين أخرى جديدة تتفحص كل ما قد حدث وما هو حادث وما قد يحدث. تنظر في القوانين والأخلاق والأعراف. وتنظر في الحكم وفي الأحزاب من جديد وتنظر في السلطة والثروة من جديد وتنظر في الوحدة والانفصال من جديد حتى إن تمت الوحدة أو شب الانفصال. وتنظر إلى الخطاب السياسي والحوار الاجتماعي من جديد ولكن لا بد من ناظرين جدد وعيون ناظرة بمناظير جديدة وهذه هي سنة الحياة لا يكابر فيها مكابر. وبذلك نكون أمة حصيفة حولت احتمالات  الفوضى الشاملة إلى إمكانات حراك وطني شامل نرجو أن يكون في حيّز زمني وجيز. هل أنا متفائل؟ ومتى كنت غير ذلك؟
ونحنا قبيل شن قلنا؟ قلنا الطير .. بياكلنا؟
نحن بلادنا باولادها البعرفوا الراطنة
أحمد ود قرنق واسحاق أخوك وابوفاطنة
لو ما كان قبيل حَـشَـف القبيلة الجاطنا
كنا نهضنا لي قدام لحقنا الفاتنا

محمد طه القدال


حقوق النشر © القدال