الاثنين، 9 يونيو 2014



(6)

مَجــالُ  الجَمــالِ

محمّد طه القدّال

طه سليمان وسنتر المفهوم  

مفهوم الاختيار  .. لو ما بكّيتك سنة


إن من أهم المفاهيم التي قامت عليها الأسلوبية هو الاختيار، على اعتبار بناء الأسلوب عبر الانتقاء أو التخيُّر أوالتفضيل أوالاستبدال أو الانتخاب. والاختيار أس الخطاب كان ذلك في بناء نثري أو شعري، خطابي أو غنائي. والاختيار يعني وجود بدائل ووجود حرية تكفل التنقل بين البدائل. والانسان بفطرته السليمة يتوخى البدائل والخيارات الحسنة على أقل تقدير إن لم يعثر على الممتازة, وذلك في جميع أسلوبه الحياتي أو المعرفي أو المهني. وحسن الاختيار من أوجب واجبات الفنان لأن فعله (الفن) متعدي إلى غيره وتأثيره أبعد من ذاته والفنان المغني أثره أخطر على معاصريه وعلى من يأتي من بعده من أجيال. وحرية الاختيار التي نقصد هي الحرية الأولى الذاتية الكامنة في أعماق الفنان ذاته والتي تجعل منه مبدعاَ يتوخى الابتكار والتجديد وتجاوز اليومي والمتكرر. وهناك من يقول بلا محدودية الحرية الذاتية ولكن ليس ثمة حرية مطلقة خاصة حرية الاختيار فلطالما كانت البدائل محدودة على مستوى اللغة خاصة أو الحياة عامة والذكي من يستغل البدائل المتاحة بأحسن مايمكن والمبدع من يبحث طوال عمره عن بدائل جديدة ليوسع من خياراته. يبحث من خلال التثقيف الذاتي وطلب العلم وزيادة المعرفة لأنه مطالب بقدر من الوعي الذي سوف يجعله حاكماً على اختياراته. وبالرغم من أن هناك قضايا تناقش تعليل الاختيار وهل يكون نتاج وعي المبدع أم دون وعيه فإن من المؤكد أن العملية النقدية الذاتية التي يواجه بها المبدع نتاجه قبل وأثناء وبعد انتاجه تتم عن وعي بالأنسب من أساليب القول أو الفعل. وبما أن الأنسب والأحسن والأجمل والأقبح والأسلم من النسبيات وكلها يختلف فيها الناس باختلاف المفاهيم والأذواق إلا أن هذه النسبية ذاتها تتطلب وعياً مجتمعياً لابد للفنان أن يتقلده حتى ينتج ابتكاراً دون نبوٍّ ويبدع عملاً تجديدياً يؤيد القيم الحسنة من غير أن يصير بوقاً مجتمعياً يردد ما ساد وعُرف، ودون استفزاز بتغليب الشاطح والغريب المستهجن. إنه خيط رفيع بين أن يرود الفنان المجتمع بالسير معه في تفاعل ديناميكي وبين أن يتنزل إلى حضيضه بادعاء انتشاله. أقول هذا وفي خاطري أغنية للفنان الشاب طه سليمان التي فيها من الغبن والحرقة والحقد والكيد والضغينة والسادية والكثير مما شابه هذه المعاني القميئة. تقول الأغنية للحبيب الذي يبدو فيها (كالعدو) فيما يعني: أنتظر .. لو ما بكّيتك سنة (بتشديد الكاف) ..وخليتك تتشهى الهنا باقي عمرك، أنا ما حأكون أنا. وانت ما طالبني حليفة في هذا الوعيد لأنني أصلاً لا أخلف وعدي الذي هو (وعيدي). خليك هناك لكنك سوف تأتيني إليّ ذليلاً منكسراً بعد أن تتلف من (اللف) والدوران والتوهان, ولو أنا ما فعلت هذا أنا أكون ما أنا. أوريك مذلة لا يحلك منها إلا الله ومن صفاتها أنها مظله من نار سوف تظللك .. ويلا يلا يلا، ضوق العذاب والعنا ولو أنا ما فعلت ذلك أكون ما أنا، حتى تبكي بالدمع وتكون سبباً لشقائك وسوف أجعل الهم هو حياتك حتى تظن أن هذا الشقاء ملازم لك وأبشرك بسنين العذاب والضنا.  وبسادية سوداء أصيلة يردد الشاعر ومعه طه سايمان: لو ماخليتك في شك من أمرك لدرجة الجنون بسبب (عمايلي) لك وبسبب مخاوفك التي سوف (تزن) وترن في رأسك كالأجراس الصاخبة حتى تحن وتشتاق لبرهة قليلة من الراحة والهنا، أنا مش حأكون أنا. هذه وحشية مفرطة وتباهي مغرور بقوة خائرة وسادية عمياء لا تتأتى من حبيب إلى حبيب ولكن من عدوٍ حاقد إلى مغلوب على أمره أو من زبانية لا تعرف الرحمة لقلبها سبيلا تذكرني بالجلادين والقتلة السفاحين. والأفدح أن كل هذه الركاكة وهذا الهراء تم دون سبب. إذ لم تورد القصيدة أي سبب لهذه الطامة النازلة على المخاطَب. لم يرد ذكر هجر ربما تسبب فيها ولا خيانة أشعلت النار ولا حتى دلال و(غندرة) من مسببات هذا الهوجة. فقط هكذا ومن قولة (تيت) وما تشوف إلا (الشلاليت). وحتى لو كان السبب هو الهجر فلن تكون العودة إلا وبالاً وخيماً على هذا العائد لأن مصيره لن يكون في يد حبيب يرفق به ولكن كالداخل إلا كهف الغول أوحارة الشبيحة. والسؤال المشروع هنا هو هل يختار الفنان الشاب طه سليمان كلمات أغنياته بنفسه؟ وهل يختارها بحرية أم أنه مجبر على ما يغني؟ وهل له معايير يزن بها اختياراته أم أن الأمر انسياق مجرد وراء الغريب والوحشي من المعاني والكلمات؟ وهل يدرك خطورة اختياره لمثل هذه المعاني على أفراد مجتمعه صغيره قبل كبيره؟ وكيف يتسنى لفنان أنيق مليح تبدو عليه سمات الأدب والنفس الطيبة أن يبشر الأحبة بوعيد الجلادين والسفاحين والبلطجية؟ ومن يلحن له؟ فبرغم قسوة الكلمات فقد جاء لحنها حنيناً وعلى إيقاع التمتم الأثير لدى السودانيين عامة وفي أغاني البنات خاصة، فيا للمفارقة إذ كيف يلتقي هذا وذا؟؟ وهو لحن مسموع على كل حال ويذكرني ألحان الغناء الشعبي أيام عنفوانه. هو لحن تجده لدى محمد أحمد عوض أومحمود علي الحاج أوفلاح أوعبد الوهاب الصادق ولا جديد فيه. أقول كل ذلك وأنا أتوسم في طه سليمان خيراً وأرجو أن يدعم مسيرته الفنية بالعلم والمعرفة حتى يأتي ما نتوسم فيه من خير ولا مزيد.

حقوق النشر © القدال